فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ} استثناء من ماذا؟
فيه وجوه: الأول: أنه استثناء من أخذ الأموال، يعني لا يحل له أن يحبسها ضرارًا حتى تفتدي منه إلا إذا زنت، والقائلون بهذا منهم من قال: بقي هذا الحكم وما نسخ، ومنهم من قال: انه منسوخ بآية الجلد.
الثاني: أنه استثناء من الحبس والإمساك الذي تقدم ذكره في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ في البيوت} [النساء: 15] وهو قول أبي مسلم وزعم أنه غير منسوخ.
الثالث: يمكن أن يكون ذلك استثناء من قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} لأن العضل هو الحبس فدخل فيه الحبس في البيت، فالأولياء والأزواج نهوا عن حبسهن في البيوت إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فعند ذلك يحل للأولياء والأزواج حبسهن في البيوت. اهـ.
قال الفخر:
قرأ نافع وأبو عمرو {مُّبَيّنَةٍ} بكسر الياء و{آيات مبينات} [النور: 34] بفتح الياء حيث كان، قال لأن في قوله: {مبينات} قصد إظهارها، وفي قوله: {بفاحشة مُّبَيّنَةٍ} لم يقصد إظهارها، وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالفتح فيهما، والباقون بكسر الياء فيهما، أما من قرأ بالفتح فله وجهان:
الأول: أن الفاحشة والآيات لا فعل لهما في الحقيقة، إنما الله تعالى هو الذي بينهما.
والثاني: أن الفاحشة تتبين، فإن يشهد عليها أربعة صارت مبينة، وأما الآيات فإن الله تعالى بينها، وأما من قرأ بالكسر فوجهه أن الآيات إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان وإذا صارت أسبابا للبيان جاز إسناد البيان إليها، كما أن الأصنام لما كانت أسبابا للضلال حسن اسناد الإضلال إليها كقوله تعالى: {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [إبراهيم: 36]. اهـ.
قال الفخر:
وكان القوم يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم: وعاشروهن بالمعروف، قال الزجاج: هو النصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في القول. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة.
والخطاب للجميع، إذ لكل أحدٍ عِشْرةٌ، زوجًا كان أو وليًا؛ ولكنّ المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229].
وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألاّ يَعبِس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون مُنطْلقًا في القول لا فَظًا ولا غليظًا ولا مُظْهِرًا ميلًا إلى غيرها.
والعشرة: المخالطة والممازَجَة.
ومنه قول طرفة:
فلئن شطّتْ نَوَاها مرّةً ** لعلَى عهد حَبيبٍ مُعْتَشِر

جعل الحبيب جمعا كالخليط والغريق.
وعاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعْتَشروا.
فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهنّ لتكون أْدْمَةُ ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهْدأُ للنفس وأَهْنَأ للعيش.
وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القَضَاء.
وقال بعضهم: هو أن يتصَنّع لها كما تتصنَع له.
قال يحيى بن عبدالرحمن الحنظلي: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في مِلْحَفَة حمراءَ ولِحيتُه تقطُر من الغَالِية، فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه المِلحفة ألقتها علي امرأتي ودهنْتني بالطِّيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن، وقال ابن عباس رضي الله عنه: إني أحِب أن أتزينّ لامرأتي كما أحِب أن تتزينّ المرأة لي.
وهذا داخل فيما ذكرناه.
قال ابن عطية: وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فاستمتع بها وفيها عِوَجٌ» أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها؛ فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق، وهو سبب الخُلْع. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: طيِّبُوا أقوالكم لهن، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي» وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ، يُداعِبُ أهلَه، ويَتَلَطَّفُ بهم، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك. قالت: سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني، فقال: «هذِهِ بتلْك» ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب [الأحكام]، ولله الحمد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَعَاشِرُوهُنَّ} أي خالقوهن {بالمعروف} وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هاهنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل.
وقيل: المعروف أن لا يضربها ولا يسئ الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها، وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كنّ ممن لا يخدمن أنفسهن، والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم، وجعله بعضهم مرتبطًا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه: {وَءاتُواْ النساء صدقاتهن نِحْلَةً} [النساء: 4] وفيه بعد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرارِ بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي، لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه، وزائد بمعاني إحسان الصحبة.
والمعاشرة مفاعلة من العِشْرة وهي المخالطة، قال ابن عطية: وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة، أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة.
وأنَا أراها مشتقّة من العشِيرة أي الأهل، فعاشَره جَعَلَه من عشيرته، كما يقال: آخاه إذا جعله أخًا.
أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها.
وقد قيل: إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر.
والمعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكرًا لأنّ النفوس لا تأنس به، فكأنّه مجهول عندها نَكِرة، إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروهًا ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه، وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس.
والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف. اهـ.

.قال القرطبي:

استدل علماؤنا بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادمٌ واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابْنَة الخليفة والملِك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزمه إلا خادم واحد، وذلك يكفيها خِدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها؛ وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عِدّة فلا يْسهم له إلا لفرس واحد؛ لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس (واحد).
قال علماؤنا: وهذا غلط؛ لأن مثل بنات الملوك اللآئى لهنّ خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد؛ لأنها تحتاج من غسل ثيابها وإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد، وهذا بيّن. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

{فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي كرهتم عشرتهن بالمعروف وصحبتهن، وآثرتم فراقهن {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} والضمير في قوله: {فِيهِ} إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان: الأول: المعنى انكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير ومن قال بهذا القول فتارة فسر الخير الكثير بولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة، والنفرة رغبة وتارة بأنه لما كره صحبتها ثم إنه يحمل ذلك المكروه طلبا لثواب الله، وأنفق عليها وأحسن إليها على خلاف الطبع، استحق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا، الثاني: أن يكون المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن، فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا، وذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج وتجد زوجا خيرًا منه، ونظيره قوله: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًا مّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] وهذا قول أبي بكر الأصم، قال القاضي: وهذا بعيد لأنه تعالى حث بما ذكر على سبيل الاستمرار على الصحبة، فكيف يريد بذلك المفارقة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نُشُوز؛ فهذا يندب فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يَؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين.
و{أَن} رفع بـ {عَسَى} وأنْ والفعل مصدر.
قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفْرَك مؤمن مؤمِنةً إن كرِه منها خُلُقًا رضي منها آخر» أو قال غيره.
المعنى: أي لا يبغضها بغضًا كُليًا يحمله على فراقها.
أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يُحب.
وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيُخَار له، فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خيَر له.
وذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية، عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر ابن عبد الرحمن حيث قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة.
وكانت له زوجة سيئة العِشْرة وكانت تقصِّر في حقوقه وتؤذيه بلسانها؛ فيقال له في أمرها ويُعدْل بالصبر عليها، فكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله عليَّ النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بُعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبةٌ هي أشدّ منها.
قال علماؤنا: في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يكره شيئًا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المعى إذا امتلأ». اهـ.